هاملِت وصحوة سياسيّة في الضفّة الغربيّة | ترجمة

«يدخل الشبح» (Enter Ghost) (2023)، لإزابيلّا حمّاد

 

العنوان الأصليّ: Hamlet, and a Political Awakening, Stir in the West Bank.

الكاتبة: ليلي ماير.

المصدر: The New York Times.

 


 

عادةً ما تتطوّر الأحداث في قصص النضوج في الأدب، حتّى تصل إلى لحظة حاسمة حين يصبح الأبطال غير البالغين أشخاصًا بالغين. رواية «الحارس في حقل الشوفان» (1951) لا تزال النموذج السائد في هذا النوع من الروايات. لكن في الحياة الواقعيّة، فقط الأشخاص الأكثر حظًّا - أو الأقلّ حظًّا - بيننا ينضجون مرّة واحدة. غالبًا ما يحدث النضج على مراحل متعدّدة، بانفجارات صغيرة محيّرة وغير منتظمة.

 

«يدخل الشبح»... النضج الوجوديّ 

تتمحور «يدخل الشبح» (Enter Ghost) (2023)، وهي الرواية الرائعة الثانية لإيزابيلّا حمّاد، حول امرأة تمرّ بنوبة نضج وجوديّة من النوع الأوّل. سونيا، ممثّلة بريطانيّة فلسطينيّة في أواخر الثلاثينات من العمر، تتعافى من علاقة عاطفيّة مضطربة مع مخرج أثار آمالها، ليس فقط في حياتها العاطفيّة بل في مسيرتها المهنيّة الهزيلة أيضًا. في أعقاب انتهاء العلاقة، تقوم سونيا برحلة طويلة إلى حيفا، حيث نشأ والدها والآن تعيش شقيقتها حنين. تريد سونيا من رحلتها أن تأخذ وقتًا للتعافي من جروحها، وأن تقضي بعض الوقت الجيّد مع حنين؛ لكي تعود إلى لندن وقد عادت إليها حيويّتها. بدلًا من ذلك، يكون إقناعها بالانضمام إلى عرض لمسرحيّة «هاملت» لويليام شكسبير، في الضفّة الغربيّة، وهو ما يؤدّي بها إلى رحلة بحث عن المعرفة السياسيّة، وإلى يقظة مؤلمة.

رواية حمّاد الأولى، المترامية الأطراف بشكل أنيق، «الباريسيّ» (2019)، تبدأ أحداثها في نابلس في أوائل القرن العشرين، ثمّ تعبر عقودًا من التاريخ الفلسطينيّ. رواية «يدخل الشبح»، على الرغم من كونها رواية معاصرة الأحداث، إلّا أنّها كذلك مشبعة تمامًا بماضي فلسطين - ومسكونة تمامًا بأشباح سونيا حمّاد، الكاتبة الحسّاسة والدقيقة في الوقت نفسه، تعطي سونيا أكبر عدد من الأشباح الشخصيّة والتاريخيّة، فتدمج بين البُعدين.

مريم، المديرة لإنتاج «هاملت» سريعة الانفعال، وذات العلاقات السياسيّة الواسعة، تبدو في البداية كأنّها ليست مسكونة بأيّ أشباح. إنّها أمّ عازبة، تغار سونيا من حياتها المنزليّة. تشتهي سونيا الدفء البوهيميّ لمنزل مريم في الضفّة الغربيّة، ومشاهدة مريم مع ابنها تجذب سونيا مرارًا وتكرارًا إلى ذكريات زواجها، الّذي انتهى منذ سنوات عدّة بعد أن خسرت سونيا جنينها. بالنسبة إلى سونيا، حياة مريم هي حياة كان يمكن أن تكون لها.

 

فلسطين المتعدّدة 

ظلّت أسرتا سونيا ومريم في ’إسرائيل‘ بعد عام 1948، عندما طُرِد معظم العرب الفلسطينيّين من بلادهم. (للتفريق بين المستوطنات والأراضي الّتي تُعْتبَر إسرائيليّة، تشير شخصيّات حمّاد إلى الأخيرة بلفظ ’الداخل‘ أو ’48‘). في طفولتها، كبرت سونيا وهي تزور جدّها وجدّتها في حيفا في كلّ عام، وتطوّر لديها إحساس بالامتياز الّذي تملكه - وهو أمر لا يخلو من التعقيد - بسبب ما تتيحه لها جوازات سفر أقاربها الإسرائيليّة.

تجد سونيا وحنين الراحة في نقاشهما حول "الطرق الّتي ناقشت بها أسرتنا، ولم تناقش علاقتنا بالفلسطينيّين في الضفّة الغربيّة". لكن عندما أخذهما عمّهما الطبيب إلى بيت لحم في سنّ المراهقة؛ لزيارة أسير محرّر كان مضربًا عن الطعام، ولا يزال غير قادر على الأكل، اختلفت ردود أفعال الأختين بشكل حادّ. بالنسبة إلى حنين، كانت الرحلة إلى الضفّة الغربيّة حافزًا دفعها نحو التفاني السياسيّ. بالنسبة إلى سونيا، كانت الرحلة مزعجة إلى درجة أنّها أقسمت على ألّا تعود إلى الضفّة الغربيّة مرّة أخرى. الآن، بالعودة مع مريم بعد أكثر من 20 عامًا، ترى سونيا الضفّة الغربيّة من خلال عيون مراهقة وبالغة في آن واحد.

في البداية، تندهش سونيا من طبيعة الحياة في الأراضي المحتلّة. عند وصولها إلى رام الله من أجل أداء أوّل قراءة لدورها في المسرحيّة، تعتقد أنّ المدينة لا تبدو "مثل ساحة حرب مدمّرة. كما أنّ الشعور فيها مألوف بشكل غريب". وقبل أن يمضي وقت طويل، تتعمّق تصوّراتها. زملاؤها الممثّلون، مزيج من الفلسطينيّين من الضفّة الغربيّة ومن الّذين وُلِدوا "في الداخل"، يريدون أن تمثّل «هاملت»، أو أن تتحدّث مباشرة إلى قصّة فلسطين. تبدأ سونيا بتجاهل هذه القراءة، ولكنّها تبدأ بفهم أنّ زملاءها في الفرقة يحتاجون إلى هذا النوع من القراءة من أجل أن يمثّلوا أدوارهم بفعاليّة. في مشهد واحد من المشاهد المؤثّرة، تدرّب مريم وائل، الممثّل الشابّ الّذي يؤدّي دور هاملت، على توجيه الجانب المظلم للشخصيّة عن طريق تجسيد أحد حرّاس الحدود الإسرائيليّين الّذين يتحرّشون به طوال الرواية.

ومع ذلك، تعتمد مريم بشكل أقلّ على الرمزيّة، وأكثر على التفاؤل؛ فهي تعتبر التفاؤل مفتاحًا لعملها الإخراجيّ، ولأفكارها السياسيّة، وطريقتها في التربية. إنّها تطلب الأمل من نفسها، بغضّ النظر عن صعوبة استحضاره، وهي الصفة الّتي تثير إعجاب سونيا بعمق. سونيا الّتي تشعر بالشكّ حول حياتها في لندن، وفي الوقت ذاته تشعر بأنّها غير مجهّزة للحياة الّتي باتت تقودها فجأة في حيفا ورام الله، ترى مريم "محدّدة بوضوح، ومصقولة بوزن العالم الّذي تدفع ضدّه باستمرار". يبدو أنّ سونيا لا تلاحظ أنّ لمريم نزعة متكتّمة وأنانيّة، وقبل أن تذكر حنين الأمر، لا تنتبه إلى أنّ تفاني مريم السياسيّ قد تكون دفعت ثمنًا عاطفيًّا لقاءً له.

 

الفنّ بوصفه طارد أشباح

بالطبع، ثمّة ثمن عاطفيّ لقاء يقظة سونيا السياسيّة أيضًا، على الرغم من أنّ تأثيرها يبدو إيجابيًّا في المقام الأوّل، حتّى نهاية الرواية المؤلمة. يجلب إليها الاهتمام بالقضيّة الفلسطينيّة والتزامها تواصلًا متزايدًا مع عائلتها، سواء على صعيد مجرّد، أو بشكل واقعيّ، عندما تعرف أنّ لوالدها تاريخًا عسكريًّا. يساعدها هذا الاتّصال الجديد على فهم التوتّرات بين زملائها في فريق العمل المسرحيّ، ويجعلها قادرة فعلًا على العمل معهم وهي تشعر بشبه حقيقيّ مع كلّ واحد منهم، ويعطيها الطاقة المتفجّرة الّتي يستطيع التضامن الحقيقيّ وحده أن يخلقها.

في مشهد متوتّر وممتاز، تحضر سونيا أوّل مظاهرة لها، ضدّ زيادة في حضور الأمن الإسرائيليّ في المسجد الأقصى، بعد حادثة عنيفة في الحرم. بينما هي هناك، تتساءل سونيا بغضب، إذا كان الجنود الإسرائيليّون الّذين يحيطون بالمتظاهرين يتخيّلون حقًّا أنّهم "يدافعون في وجه مجموعة من المسلمين المتعصّبين بجنون؟ ... أم أنّ بعضهم يعرف بالفعل حقيقة ما يفعلونه هناك؟". في مرّات كثيرة أخرى، أسئلتها، وأسئلة الرواية، لا تكون غاضبة، بل تكون أسئلة إنسانة مجروحة ومحتارة. على الهاتف، يخبرها والدها المسنّ: "فلسطين ذهبت. خسرناها منذ وقت طويل". أحد الأسئلة الرئيسيّة في الرواية هو ما إذا كان من الصواب التصرّف كما لو كان هذا صحيحًا، كما لو أنّ فلسطين ذهبت، بغضّ النظر عمّا إذا كنت تؤمن بذلك أو لا.

تلاحظ سونيا، بشيء من الازدراء، أنّ "لا شيء أكثر مجاملة للفنّان من التوهّم بأنّه ثوريّ متخفٍّ"، لا تنغمس حمّاد في هذا الوهم، لكنّها كذلك ليست انهزاميّة في نظرتها إلى دور الفنّ. إذا كانت تشارك سونيا شعورها بالازدراء، فهو شعور بالازدراء نحو السرّيّة. في «يدخل الشبح»، تكون عاقبة الكتمان والخداع سيّئة، كما هو واضح من عنوان الرواية، ومن استخدام ’هاملت‘ فيها. في الواقع، يبدو أنّ الرواية تجادل، أنّ النموّ والاتّصال الحقيقيّين، سواء سياسيّين كانوا أو شخصيّين، غير ممكنين قبل أن تخرج أشباح الجميع من مخابئها. والفنّ، إن لم يكن له دور آخر، فإنّه على الأقلّ أداة ممتازة لإجبار الأشباح على الظهور.

 


 

روزَنَة: إطلالة على الثقافة الفلسطينيّة في المنابر العالميّة، من خلال ترجمة موادّ من لغات مختلفة إلى العربيّة وإتاحتها لقرّاء فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة. موادّ روزَنَة لا تعبّر بالضرورة عن مبادئ وتوجّهات فُسْحَة، الّتي ترصدها وتنقلها للوقوف على كيفيّة حضور الثقافة الفلسطينيّة وتناولها عالميًّا.